وإنما الذي تباينت فيه الرُّتب، وتحاكت فيه الرُّكب، ووقع فيه الاستباق والتناضل، وعظم فيه التفاوت والتفاضل حتى انتهى الأمر إلى أمد من الوهم متباعد، وترقى إلى أن عدّ ألف بواحد = ما في العلوم والصناعات من محاسن النكت والفِقَر، ومن لطائف معان فيها (1) مباحث للفِكَر، ومن غوامض أسرار محتجبة وراء أستار، لا يكشف عنها من الخاصة إلاّ أوحَدِيُّهم (2) وأخصهم، وإلاّ واسطتهم وفَصُهُم، وعامتهم عُماةٌ عن إدراك حقائقها بأحداقهم، عُناةٌ في يد التقليد، لا يُمَنّ عليه بجزّ نواصيهم وإطلاقهم.
ثم إن أملأ العلوم بما يَغمُرُ القرائح، وأنهضها بما يَبهرُ الألباب القوارح من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدقّ سلكها = علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم، كما ذكر الجاحظ (3) في كتاب "نظم القرآن ".
فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلّم وإن بَزّ (4)
أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن
القِريِّة (5) حفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري (6) أوعظ، والنحويّ وإن
__________
(1) كذا في النسخ: وفي الكشاف 1/ 2 معان يدق فيها مباحث للفكر.
(2) في د: أوحدهم.
(3) هو عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان الجاحظ، كان من الذكاء والحفظ بحيث شاع ذكره، وإليه تنسب الفرقة المعروفة بالجاحظية من المعتزلة، توفي سنة خمس وخمسين ومائتين. معجم الأدباء 3/ 2010، ووفات الأعيان 3/ 470 وكتابه: نظم القرآن من الكتب التي تكرر تأليفها ثلاث مرات، ولا أعلم له نسخة مخطوطة. قال ياقوت: كتاب نظم القرآن له ثلاث نسخ.
(4) بزه يبزه بزاه: أي سلبه. الصحاح/ مادة بز.
(5) هو أيوب بن زيد بن قيس أبو سليمان الهلالي، المعروف بابن القرية، والقرية جدته، كان أعرابيًّا أميًّا، وكان يضرب به المثل في الفصاحة والبيان، قتله الحجاج سنة أربع وثمانين. وفيات الأعيان 1/ 250 وتاريخ الإسلام حوادث سنة 81 - 100 ص43.
(6) هو الحسن بن أبي الحسن: يسار أبو سعيد البصري، كان من سادات التابعين وكبرائهم، توفي سنة عشر ومائة. وفيات الأعيان 2/ 69 وسير أعلام النبلاء 4/ 563.